تكتب الدكتورة سينك جنكيز أن سياسة تركيا تجاه ليبيا شهدت تحوّلًا واضحًا في السنوات الأخيرة، بفعل تغيّر موازين القوى في شرق المتوسط والمنطقة الأوسع. تشير الكاتبة إلى أن أنقرة باتت اليوم فاعلًا سياسيًا وعسكريًا في آن واحد داخل ليبيا، وأن استدامة هذا الدور تتطلب شركاء لا خصومًا، أو على الأقل تفاهمات براجماتية مع أطراف قد لا تتطابق مصالحها دائمًا مع المصالح التركية.
تناقش الكاتبة في المقال المنشور على موقعى عرب نيوز إعادة تموضع تركيا الإقليمي ومحاولاتها بناء شبكة علاقات أكثر مرونة في الملفات المعقّدة، وعلى رأسها ليبيا وشرق المتوسط.
تحوّل براجماتي في السياسة التركية
وترى جنكيز أن ارتفاع الرهانات في ليبيا وشرق المتوسط فرض قيودًا واقعية على أنقرة. أحد أبرز هذه القيود تمثّل سابقًا في طبيعة العلاقة مع قائد الجيش الوطني الليبي خليفة حفتر. في خطوة وُصفت بالاستراتيجية والبراجماتية، استقبلت أنقرة في أبريل نجل حفتر، صدام حفتر، الذي التقى وزير الدفاع التركي يشار جولر وعددًا من كبار المسؤولين العسكريين. عكس هذا اللقاء استعداد تركيا للتعامل مع أطراف عارضتها في مراحل سابقة.
تؤكد الكاتبة أن هذا الانفتاح لا يعني تغييرًا جوهريًا في سياسة تركيا الليبية، بل يعكس اعترافًا بتبدّل الوقائع الميدانية. فبينما تنخرط أنقرة سياسيًا ودبلوماسيًا، تواصل في الوقت نفسه الحفاظ على حضور عسكري قوي، وهو ما يتضح من تقديم الرئاسة التركية مقترحًا للبرلمان لتمديد انتشار القوات التركية في ليبيا لمدة 24 شهرًا إضافيًا.
تشدّد جنكيز على أن التجربة السابقة علّمت تركيا كلفة الرهان على طرف واحد في دول تعاني انسدادًا سياسيًا مزمنًا مثل ليبيا، ما دفعها إلى تبنّي مقاربة أكثر شمولًا تقوم على التواصل مع جميع الفاعلين المؤثرين.
مصر في حسابات أنقرة الليبية
ضمن هذا الإطار، تسعى تركيا إلى توسيع دائرة انخراطها الثنائي والمتعدد الأطراف. تشير الكاتبة إلى استضافة الرئيس رجب طيب أردوغان قمة ثلاثية ضمّت رئيسي وزراء ليبيا وإيطاليا، في مسعى لبناء ائتلاف أوسع يخدم الأهداف الاستراتيجية التركية. بالتوازي، تعمل أنقرة على تطوير شراكات مع الإمارات ومصر، بوصفهما فاعلين أساسيين في الساحة الليبية.
جاءت زيارة صدام حفتر متبوعة بزيارة رئيس جهاز الاستخبارات التركية إبراهيم قالن إلى بنغازي للقاء خليفة حفتر، في محاولة لدفع البرلمان المتمركز في طبرق إلى المصادقة على اتفاق ترسيم الحدود البحرية الموقع عام 2019 بين تركيا وحكومة الوفاق الوطني السابقة في طرابلس. ترى أنقرة في هذا الاتفاق مكسبًا استراتيجيًا لتثبيت حقوقها في شرق المتوسط، رغم اعتراض أطراف إقليمية عدة عليه.
توضح جنكيز أن القاهرة، ورغم رفضها اتفاق 2019 ومواقفها المتحفظة على السياسة التركية في شرق المتوسط، أبدت في السنوات الأخيرة استعدادًا متزايدًا للحوار مع أنقرة. يعود ذلك إلى التوسع الملحوظ في التعاون السياسي والاقتصادي والدفاعي بين البلدين منذ تطبيع العلاقات. تذكر الكاتبة أمثلة عملية، مثل إعلان شركة “أسيلسان” التركية فتح مكتب إقليمي في مصر، وإجراء أول مناورة بحرية مشتركة بين البلدين في شرق المتوسط منذ 13 عامًا.
شرق المتوسط.. التعاون أم التنافس؟
تطرح الكاتبة السؤال الجوهري: كيف ستدير تركيا ومصر خلافاتهما في شرق المتوسط مع تعميق التقارب بينهما؟ ترى أن الفصل بين الملفات، أو ما تسميه “التجزئة الذكية”، يشكّل الخيار الأكثر أمانًا للحفاظ على مسار العلاقات. لا يعني ذلك الاكتفاء بالاختلاف، بل رسم حدود واضحة بين مجالات التعاون ومناطق الخلاف لتجنّب الصدام.
تلفت جنكيز إلى أن مصر تظل داعمًا رئيسيًا للجيش الوطني الليبي منذ سقوط نظام القذافي، وأن رئيس الانقلاب عبد الفتاح السيسي التقى خليفة حفتر مؤخرًا. كما تسعى القاهرة إلى توقيع اتفاق لترسيم الحدود البحرية مع ليبيا، وهو اتفاق قد يتعارض مع التفاهم التركي – الليبي لعام 2019، ما قد يضيّق هامش المناورة أمام أنقرة.
رغم ذلك، تؤكد الكاتبة أن الحاجة إلى التنسيق بين أنقرة والقاهرة باتت أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، لحماية مصالحهما في مناطق الاهتمام المشترك. تشدّد على أن شرق المتوسط فضاء دائم لكل فاعليه، ولا يمكن تغييره بمنطق الصفر أو الغالب والمغلوب. لذلك، تكتسب صيغة غير صفرية بين تركيا ومصر أهمية خاصة، مع ضرورة تحييد تأثير الفاعلين الخارجيين على علاقاتهما في ليبيا وشرق المتوسط.
تختم جنكيز بالتأكيد على أن تعاون أنقرة والقاهرة لا يقتصر على ليبيا، بل يمتد إلى ملفات إقليمية أخرى، من غزة إلى أمن شرق المتوسط. في ظل هذا التشابك، ترى الكاتبة أن بناء الثقة والتنسيق البراجماتي يشكّلان الخيار الأكثر واقعية للحفاظ على الاستقرار وحماية المصالح المشتركة للطرفين.
https://www.arabnews.com/node/2626838

